إيزابيل الليندي… صانعة الفرح الحزينة


فادي نصار

إضافة الى استشهاد عمها الرئيس الشيوعي لجمهورية تشيلي سلفادور الليندي، ورحيل شاعر البلاد العظيم بابلو نيرودا، كانت وفاة ابنتها باولا الرقيقة، وردة عمرها، قد خددت حياتها بصليب العذاب والمرارة.

وُلدت إيزابيل الرقيقة في شهر آب (أغسطس)، فهي من برج الذكاء، وكانت قد بدأت الكتابة في سن متقدم، ربما كانت حينها على مشارف الاربعينيات من العمر، ورشحت مراراً للحصول على جائزة نوبل، ويمكن أن تصنف أعمالها ضمن ما سمي بالواقعية السحرية التي بدأها الراحل غابرييل غارسيا ماركيز.

كان والدها توماس الليندي سفيرا، الأمر الذي جعل حياتها عبارة ترحال دائم وطويل، تُراكم خلالها في ذاكرتها الكثير من الحكايات، لتتحول بذلك الى روائية مجتهدة في سرد تفاصيل حميمية وكثيرة، فقد نسجت إيزابيل الليندي روايات تضج بأحزان الناس البسطاء، وأحلام الصبايا العاشقات، تضج بحكايا جُلها دافىء، لعشاق سكارى، لصوص، أطباء، شذاذ آفاق، قتلة، شعراء مبشرون بالدين، قراصنة وبحارة، سماسرة ومهربون وتجار عبيد،

أصحاب سوابق وسجناء هاربون، قوادات ومومسات وبهلوانات، أطباء وسفراء، عالم متكامل يشبه تماماً أميركا اللاتينية.

قصة تشيلي الحزينة

حصل الانقلاب الدموي على عمها سلفادور الليندي الذي قُتل خلال الاستيلاء الدموي على لا مونيدا (القصر الرئاسي التشيلي) عام 1973، بعدها بأيام توفي شاعر تشيلي العظيم نيرودا، حينها قالت إيزابيل: “لقد ودعنا حريتنا وديموقراطيتنا يوم دفنا بابلو نيرودا”.

وفي 1975 نُفيت الليندي إلى فنزويلا، غير أن الصدمة الأعظم في حياتها كانت وفاة ابنتها باولا في 1993 عن عمر ثمانية وعشرين عاماً، كل هذه الاحداث الدرامية تظهر آثارها في ما بعد، وبشكل واضح في روايتها الأولى “بيت الأرواح”.

الأسرة مركز العالم

تصنع إيزابيل الليندي في معظم أعمالها أرشيفاً لأسرتها، فهي تشرِّح الشخصيات، تسرد وقائع وتفاصيل عائلية بدقة وبراعة، وتنبش أسرار عماتها وأخوالها وزوجها الاول (بيت الارواح)، وإن باسماء مستعارة، غير أن من يعرف إيزابيل جيداً يقول انها تتكلم عن أسرتها فرداً فردا.

مشاهد وحوادث جرت في التسعينيات من القرن الماضي والنصف الأول من القرن الجديد، قصص تمخر عباب عالمها العائلي الخاص والعام، حيث هاجس وجود الأسرة موروثاً في جيناتها اللاتينية الدافئة، علاقاتها الصادقة مع الناس، سواء كانوا من نسلها أو من نسل

زوجها الأميركي (ويللي)، أو من الآخرين الذين ربطوا حيواتهم وأقدارهم مع حياة وقدر تلك الأسرة. فالأسرة في كتابات إيزابيل تبدو وكأنها مركز العالم وأساسه، إن انهارت إنهار كل شيء بعد ذلك.

لقد كتبت بصدق لانها تعرف أدق التفاصيل، وكل الأسرار تقريباً عن كل الاقارب والاصدقاء، تعرف عميق الاشياء واكثرها حميمية في اسرتها، وبهذا كانت وفية لنصيحة كبار الكتّاب الذين يشيرون إلى ضرورة أن يكتب الروائي عمّا يعرفه جيداً. وماذا يعرف المرء أكثر من معرفته لذاته ولتاريخ أسرته؟

فنانة تحول حزنها الى فرح

تبدو الليندي في معظم اعمالها الروائية بارعة في تسجيل رؤية إزاء الأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة،كذلك تفصح عن آرائها في مسائل شتى مثل الحب والزواج والجنس والشذوذ والطلاق والصداقة واليساريين والملحدين، والفنانين والانضمام إلى الجمعيات.

لقد جعل منها موت ابنتها باولا امرأة حنونْ ذات مسحة من الحزن الشفيف، مسكوبة في اطار ذهبي على صفحات روايتها الشهيرة (باولا) التي يشعر المرء عند قراءتها بأنه في عالم جميل شاعري، ولكنه حزين حزناً عميقاً، حيث يتنقل طيف باولا بين الصفحات ناعماً خفيفاً يغلّف السرد بالرهبة والغموض.

تؤمن إيزابيل باننا ارواح ليس الا، فتقول في ذلك: “الغموض السحري ليس وسيلة أدبية، ليس ملحّاً ومبهراً لكتابها، وإنما هو جزء من الحياة نفسها”، وهذا الغموض نجده واضحاً في روايتها الأولى (بيت الأرواح) فنراها مغرمة بعالم الماورائيات بما هو معجز وسحري.

كاتبة من طراز إيزابيل الليندي قادرة بإبداعها أن تخرج كل الذكريات من شكلها الحزين وروحها الكئيبة، لتجعلها تسبح في بحر من النور والفرح والجمال، تستطيع التقاط لحظات الفرح والحزن والإحباط والغضب واليأس والرغبة من شعوب البلدان التي عاشت فيها، لتسكبها كلها في حبكة روايتها مبتعدةً عن المواربة والنفاق الاجتماعي، بصدق وبلغة تكاد تكون اقرب ما يمكن الى نبرة الثوار في أميركا اللاتينية، قوية، شجاعة وجميلة.

روائية أم مفكر ماركسي

في رواية “ابنة الحظ” نجد الليندي تشابك مجموعة من الحكايا المتوازية، فالرواية تذكِّرنا، بالكثير من سابقاتها، ذات لغة سهلة تتدفق بسلاسة ويسر ومن غير تقعر أو تعرجات. إلا أن تقنيات قصص ألف ليلة وليلة تبرز في روايتها هذه بشكل صارخ، حيث تتوقف حكاية لتبدأ حكاية جديدة، وتنتهي الثانية من أجل حكاية ثالثة، وهكذا في تنقلات سردية مكوكية تحتاج إلى قراءة متأنية للامساك بخيوطها وامتداداتها وتشعباتها وتداخلاتها.

كما تثبت إيزابيل الليندي في الرواية المذكورة أن العمل الروائي ليس مجرد سرد خيالي محض، بل هو نوع من الاجتهاد الفكري المنجز في اطار الحركة الثقافية للمجتمع، ولكن كي يتحقق هذا الانجاز يحتاج الى حقل واسع من المعلومات العلمية والتاريخية، ورؤية إنسانية ناضجة وعميقة، كما يحتاج الى تراكم فلسفي حول خبايا النفس البشرية، وتضاريس العلاقات الاجتماعية، ذلك أن العمل الإبداعي هو الطريق الممتع لولوج عالم السياسة الممل.

ترصد إيزابيل في روايتها “ابنة الحظ” بوعي مفكر سياسي مخضرم التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مدن ودول في حقبة مهمة من تاريخ الرأسمالية، هي حقبة الاستعمار، توضح كيف تولد المدن والموانئ وطرق المواصلات، وتوظف العلوم والتكنولوجيا في

الإنتاج وتزدهر الاستثمارات والأعمال، ويحصل الاستغلال وتنشأ طبقات اجتماعية وتختفي أخرى، وتتعمق الفجوات بينها، ويُباد البشر، ولا سيما الهنود الحمر، سكان أميركا الأصليين.

ينهار عالم ويقوم على أنقاضه عالم آخر وتتبدل القيم والأفكار والاهتمامات والثقافة وأنماط السلوك، حتى تبدو المؤلفة للقارىء وكأنها أحد المفكرين الماركسيين وهو يقوم بشرح كتاب رأس المال الشهير، ولكن بطريقة سلسلة وممتعة.

Author: Faddi Nassar

Share This Post On

Submit a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Top

Pin It on Pinterest

Share This

مشاركة

شارك هذا المقال مع صديق!