شيرين صبحي
“من أورثني هذا الهلع / هذا الدم المذعور كالفهد الجبليّ / ما ان أرى ورقةً رسميةً على عتبه / أو قبعةً من فرجة باب / حتى تصطكّ عظامي ودموعي ببعضها / ويفرّ دمي مذعوراً في كل اتجاه / كأن مفرزةً أبديةً من شرطة السلالات / تطارده من شريان إلى شريان / آه يا حبيبتي / عبثاً أستردُّ شجاعتي وبأسي / المأساة ليست هنا / في السوط أو المكتب أو صفارات الإنذار / إنها هناك / في المهد.. في الرَّحم / فأنا قطعاً / ما كنت مربوطاً إلى رحمي بحبل سرّه / بل بحبل مشنقة”.
على أرض مدينة سلمية بمحافظة حماه السورية، ولد محمد الماغوط (عام 1934 ) أحد أهم رواد قصيدة النثر في الوطن العربي، في أسرة شديدة الفقر، لأب فلاح بسيط عمل أجيراً لدى الآخرين طوال حياته.
عندما انتقل إلى دمشق ليدرس في الثانوية الزراعية، أرسل والده رسالة إلى المدرسة يطلب منهم الرأفة بابنه فقاموا بتعليقها على أحد الجدران مما جعله أضحوكة زملائه، وهو ما دفع الطالب الشاب إلى الهروب من المدرسة والعودة إلى سلمية.
في السلمية انضم إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي دون أن يقرأ مبادئه، وكان في تلك الفترة الحزبان الكبيران هما “السوري القومي الاجتماعي” و”البعث”، وكان حزب البعث كان في حارة بعيدة في حين كان القومي بجانب بيته وفيه مدفأة أغرته بالدفء فدخل إليه وانضم إلى صفوفه.
في هذه الفترة عمل الماغوط فلاحاً ، وظهرت موهبته الشعرية فنشر قصيدة بعنوان “غادة يافا” في مجلة الآداب البيروتية، ثم التحق بالخدمة العسكرية في الجيش. ثم جاء اغتيال عدنان المالكي في 22 أبريل 1955 ليصبح نقطة تحول في حياة الماغوط حيث اتُهِمَ الحزب السوري القومي الاجتماعي باغتياله، ولوحق أعضاء الحزب واعتقال الكثيرين منهم، وكان الماغوط ضمنهم.. خلف القضبان بدأت حياته الأدبية الحقيقية، تعرف أثناء سجنه على الشاعر أدونيس الذي كان في الزنزانة المجاورة.
خلال فترة الوحدة بين سورية ومصر كان الماغوط مطلوباً في دمشق، فقرر الهرب إلى بيروت في أواخر الخمسينات، ودخول لبنان بطريقة غير شرعية سيراً على الأقدام، وهناك انضمّ إلى جماعة مجلة “شعر” حيث تعرف على الشاعر يوسف الخال الذي احتضنه في مجلة «شعر».
وفي بيروت نشأت بين الماغوط والشاعر بدر شاكر السياب صداقة حميمة فكان كان السياب صديق التسكّع على أرصفة بيروت، وفي بيروت تعرّف الماغوط في بيت أدونيس على الشاعرة سنية صالح بسبب التنافس على جائزة جريدة «النهار» لأحسن قصيدة نثر.
عاد الماغوط إلى دمشق بعد أن غدا اسماً كبيراً، حيث صدرت مجموعته الأولى “حزن في ضوء القمر” (عن دار مجلة شعر، 1959)، التي ألحقها عن الدار نفسها بعد عام واحد بمجموعته الثانية “غرفة بملايين الجدران” (1960)، وتوطدت العلاقة بين الماغوط وسنية صالح بعد قدومها إلى دمشق لاكمال دراستها الجامعية. وفي العام 1961 أدخل الماغوط إلى السجن للمرة الثانية وأمضى الماغوط في السجن ثلاثة أشهر، ووقفت سنية صالح وصديقه الحميم زكريا تامر إلى جانبه خلال فترة السجن، وعقب خروجه من السجن تزوج من سنية صالح وأنجب منها ابنتيه شام وسلافة.
سأدخن همومي
وجراحي
كما لو كنت في نزهة على شاطئ البحر ووراء القضبان
أعقد لقصائدي شرائط
وجدائل مدرسية بيضاء
وأطلقها من النافذة
ثم أتابع خطوات السجان
وهو يذهب ويجيء
أمام زنزانتي كأنها آثار قلمي
كتب الماغوط الخاطرة والقصيدة النثرية، وكتب الرواية والمسرحية وسيناريو المسلسل التلفزيوني والفيلم السينمائي ، ناصر خلالها قضايا الشعب والطبقة الكادحة. وعن أسلوب حياته وونتاجه الأدبي قال ذات يوم “بدأت وحيدا، وانتهيت وحيدا، كتبت كإنسان جريح وليس كصاحب تيار او مدرسة”..!
كانت فترة الثمانينات صعبة وقاسية على الشاعر الراحل، حيث بدأت بوفاة شقيقته ليلى، ثم والده نتيجة توقف القلب، وكانت أصعب ضربة تلقاها هي وفاة زوجته الشاعرة سنية صالح عام 1985 بعد صراع طويل معه ومع السرطان، وبعد عامين رحلت والدته ، ثم تزوجت إبنته شام اواسط التسعينات من طبيب سوري مقيم في أمريكا ولم تاتي لزيارة سوريا إلا لحضور جنازته وكذلك إبنته الثانية سلافة المقيمة مع زوجها في بريطانيا، وهو ما ترك في حياته وأعماله أثرا بالغا. وفي ظهيرة الثالث من ابريل عام 2006 رحل الماغوط عن عمر يناهز 72 عاماً وهو يجري مكالمة هاتفية .