اعتاد اللبنانيون منذ أعوام طويلة التدخّل الأميركي السافر في شؤونهم الداخلية. منذ خمسينيات القرن الماضي وإنزال المارينز، مروراً بالحرب الأهلية والجولات المكوكية لفيليب حبيب، والقرار 1559 والشرق الأوسط الجديد الذي أرادت منه كوندوليزا رايس أن يكون نتيجة حتمية لحرب تموز 2006، وصولاً للضغط على الدولة اللبنانية للإفراج عن العميل الإسرائيلي حامل الجنسية الأميركية عامر الفاخوري.
النهج الأميركي في الضغط على الدولة اللبنانية، وخنوع المسؤولين وقبولهم بجلّ ما يريده الأميركيون بات أسلوب حياة في غياهب النظام اللبناني.
جاءت مسألة التعيينات المالية الأخيرة لتعطي مثالاً آخر عن طأطأة الرأس اللبنانية أمام مطالب السفارة الأميركية. ارتضت الحكومة الغاء التعيينات الضرورية في مصرف لبنان وهيئة الرقابة على المصارف كرمى الإصرار الأميركي على الحفاظ على أكثر من “وديعة” في النظام المالي اللبناني، حيث لم تخف السفارة الأميركية في بيروت رغبتها مثلاً في التجديد للنائب الثاني لحاكم مصرف لبنان محمد البعاصيري في منصبه في لقاءات السفيرة الجديدة دوروثي شيا مع عدد من كبار المسؤولين والوزراء.
وحين دان النائب عن حزب الله حسن فضل الله التدخل الأميركي في التعيينات المالية والإصرار الأميركي على التجديد لبعاصيري، من دون أن يسميه، خرج المتحدث باسم السفارة في بيروت كايسي بونفيلد ليردّ على التهمة بالتدخل بالقول إن “التعيينات في المصرف المركزي شأن لبناني”، دون أن يخجل من التأكيد أنّه “من الطبيعي أن تقدم الولايات المتحدة، كصديق وشريك للبنان، نصائح بشأن تعيين خبراء كفوئين موثوق بهم ومشهود لكفاءتهم من أجل إعادة الثقة الدولية في النظام المصرفي اللبناني”.
التدخّل الأميركي في الشأن اللبناني الداخلي، والذي بات يعترف به الأميركيون علانية، لم ينتهِ عند حدّ التعيينات المالية. بل إنّ السفيرة الأميركية الجديدة دوروثي شيا التي خدمت لأعوام في “اسرائيل”، والتي تعرف لبنان ودور حزب الله فيه، سمحت لنفسها بعد قضية الفاخوري وأزمة التعيينات، أن تنطلق نحو التدخّل في رسم الوجهة الاقتصادية للدولة اللبنانية، حيث باتت تشدّد في لقاءاتها مع وزراء ومسؤولين لبنانيين على ضرورة التوجّه نحو صندوق النقد الدولي !
في هذا السياق، بات واضحاً بين السطور ما تطرحه أميركا على اللبنانيين. هو تبادل بين المال والنأي بالنفس. تعلم أميركا جيداً أنّ لبنان يحتاج للمال، وهي بذلك تمسك الجزرة، مطالبة اللبنانيين بـ”النأي بالنفس” مقابل إعطائهم جرعة اوكسيجين نقدية.
من مفاوضات الحدود البرية والبحرية والدعم الأميركي للموقف الاسرائيلي على طول الخط، والمحاولة السنوية التي تقوم بها الادارة الاميركية لتعديل مهام اليونيفيل للضغط أكثر على المقاومة، وصولاً الى الفيتو الأميركي حول تسليح الجيش اللبناني من روسيا، ولو عبر هبة، وختاماً قضية الفاخوري والتعيينات المالية وسياسة الترهيب والترغيب في قضية المال مقابل النأي بالنفس.. هل في الدولة اللبنانية من سيقول لا ويرفض الخنوع للعنجهية الأميركية وتدخلاتها السافرة في الشؤون اللبنانية الداخلية؟ سنرى مع الوقت.