قامت الجمهورية اللبنانية منذ إنشائها على نظام اقتصادي يعتمد على ليبرالية مفرطة تقدّس الحرية المطلقة في كل النواحي الاقتصادية. ومع إنشاء القطاع المصرفي في العام 1963 مترافقاً مع قانون النقد والتسليف، نما هذا القطاع بشكل خيالي جعله يزيد عن حجم الاقتصاد للدولة اللبنانية بحوالي أربعة أضعاف، ومما ساهم في نمو هذا القطاع التحويلات المالية التي أتت من الدول العربية وخاصة المجاورة بسبب الانقلابات فيها، بالإضافة إلى أن أغلب أنظمة المنطقة كانت قائمة على الإشتراكية وهروب رؤوس الأموال منها إلى لبنان البيئة الجاذبة ، خوفاً من التأميم. وبانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية تم تكريس نظاماً اقتصادياً ريعياً بامتياز، جعلت من تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية هدفاً وليس وسيلة لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية الكبرى. وألغت السياسة النقدية كل السياسات الأخرى من قاموس الاقتصاد اللبناني لتتربع على عرش هذا النظام الاقتصادي الريعي. وعندما ظهرت الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان إلى العلن في العام 2017، تكشّفت حقيقة الاهتراء والخلل البنيوي في هذا النظام وعدم قدرته على مواجهة الأزمات وغياب المناعة الذاتية عن الاقتصاد اللبناني. وهذا ما دفع السلطة السياسية إلى المناداة بضرورة الانتقال إلى الاقتصاد الإنتاجي، فجاءت خطة ماكينزي ” الخطة الاقتصادية للنهوض” في تموز 2018 الداعية إلى تنمية وتطوير 6 قطاعات إنتاجية أساسية، تلتها ورقة بعبدا الاقتصادية الإصلاحية في أيلول 2019 لتؤكد على بناء اقتصاد منتج تنافسي واحتوائي يحقق نمواً اقتصادياً مستداماً بمعدلات مرتفعة. وعند إعلان الحكومة الحالية التوقف عن سداد ديون الدولة اللبنانية، كلّفت الشركة المالية الأميركية لازارد وضع خطة اقتصادية ومالية إنقاذية تم عرضها على مجلس الوزراء في 9 نيسان لمناقشتها، مدتها خمس سنوات. وهنا ينبغي التوقف عند المقاربة التالية:
– تعتمد الخطة لنجاحها على فرضية أساسية وهي توفير الدعم الخارجي وعلى تنفيذ مؤتمر سيدر، وبالتالي هي تقوم على نفس النهج المتبع في السابق وهو الاعتماد الكلي على الخارج. مما يعني أنه في حال عدم توفر هذا الدعم وهذا على الأرجح ما سيحدث في هذه الفترة في ظل الصراعات الكبيرة في المنطقة والعقوبات المفروضة على حزب الله وعلى النظام المصرفي اللبناني، الأمر الذي يجعل من هذه الخطة حبراً على ورق. ولم تأخذ الخطة بعين الاعتبار المتغير الأساسي على مستوى العالم بأكمله – جائحة كورونا- والانهيارات الاقتصادية الحاصلة في الاقتصاديات الدولية والتي بعضها أصبح يحتاج إلى دعم ومساعدة. وبلغ عدد صفحات الخطة الثلاثين، وهي تحوي في الكثير من الأماكن حشواً ولغواً وترداداً لكلام نحن بغنى عنه.
– لم تقبل الحكومة في السابق التفاوض مع صندوق النقد الدولي باعتبار الشروط المفروضة من قبله مجحفة وخاصة بحق الطبقات الفقيرة. لتأتي هذه الخطة على قاعدة ” من تحت الدلفة إلى تحت المزراب” لتؤكد أن الحل هو عبر صندوق النقد الدولي من باب كورونا، والذي سيقوم بدعم الدول التي أصابها هذا الوباء. ولكن مع اختلاف في الشروط الإصلاحية. وإذا استقرأنا هذه الشروط الإصلاحية في الخطة لا نجدها تختلف جوهرياً وفي المضمون عن مثيلاتها من قبل صندوق النقد الدولي. فهي تحمّل الطبقات الفقيرة والمتوسطة عبء تمويل إيرادات الدولة.
– في عرضها للدين العام وهيكلته، تعتمد الخطة على حسن نية وتعاطف الدائنين مع الدولة اللبنانية وقبولهم بشروطها المجحفة بحقهم، وتحمّلهم هم الخسارة وسوء إدارة المال العام في لبنان بل وسرقته. وكأن الدائنين هم جمعية خيرية سيقبلون ما تقترحه الدولة اللبنانية على طبق من فضة دون أثمان بديلة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى ال “هيركات” المقنع المطروح والذي لن يطال الأموال المنهوبة وشبكات الفساد الكبرى التي قامت بتهريب أموالها، وإنما سيطال المودعين العاديين من المتقاعدين والتجار وغيرهم.
– تتوقع الخطة مزيداً من الركود الاقتصادي لغاية العام 2024، وهي بحد ذاتها تسهم في مزيد من التدهور الاقتصادي، عبر رزمة الضرائب المقترحة على الشركات والأرباح، والتي هي عمود أي اقتصاد لأنها مرتبطة بتشجيع الاستثمارات وزيادة الناتج المحلي وتوفير فرص العمل ومكافحة البطالة. مع العلم أنه عند الأزمات تقوم الحكومات بتقديم حزمات من المساعدات للشركات والصناعات الناشئة كما فعلت الصين ويفعل الغرب الآن لمواجهة تداعيات كورونا الاقتصادية.
– في الموضوع النقدي تكرّس الخطة 3 أسعار رسمية لسعر الصرف فضلاً عن تنامي السوق السوداء لسعر الصرف. وتهدف إلى تثبيت سعر صرف الدولار في العام 2024 على 3000 ل ل. وبذلك تكون أبدعت نظاماً نقدياً جديداً يمزج ما بين النظام الحر والثابت لسعر الصرف، وهو فريد في نوعه على الطريقة اللبنانية.
– ما زلنا نعتمد حتى في دراساتنا وخططنا على الخارج ونكلّف الخزينة مزيداً من الأموال، مع أن لدينا العديد من الطاقات والخبراء في مختلف المجالات وهم أقدر على وضع التصورات والمقاربات التي تتناسب مع أوضاعنا الداخلية.
إن ما يلفت الانتباه في هذه الخطة عدم ذكرها ضرورة تنمية القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة حتى السياحة، والعمل على زيادة الناتج المحلي وتكبير حجم الاقتصاد وما لذلك من انعكاسات إيجابة على مختلف الأصعدة. وإن الحل لا يتحقق إلا عبر استعادة الثقة والتي يمكن تحقيقها عبر تحديد بنك أهداف بسيط جداً وقصير الأجل يبدأ من منطلق واحد أساسي لا غير وهو استعادة الأموال المنهوبة. عندها لا شك أن الثقة ستستعيد بريقها وعندها لا نحتاج إلى خطط فضفاضة وشركات أجنبية للخروج من عنق الأزمة.