كادت أعمال القمة العربية التنموية: الاقتصادية والاجتماعية أن تختتم دورتها الرابعة من دون مفاجآت. لكن رئاسة الدولة المضيفة، الرئاسة اللبنانية، نجحت في كسر رتابة الاجتماعات، أولاً من خلال المبادرة التي قدمها الرئيس ميشال عون وثانياً من خلال انتزاع توافق عربي حول قضية النازحين. هذا فضلاً عن المفاجأة التي أعدّها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني من خلال الحضور للمشاركة في الجلسة الافتتاحية والتي سرعان ما أثمرت “مساعَدة” للاقتصاد اللبناني عبر استثمار نصف مليار دولار في السندات اللبنانية.
المبادرة اللبنانية
مبادرة عون تتلخص باقتراح تأسيس مصرف عربي لإعادة الإعمار والتنمية من شأنه “مساعدة جميع الدول والشعوب العربيّة المتضرّرة على تجاوز محنها، والاسهام في نموّها الاقتصادي المستدام”. وتكمن اهميّة هذا الطرح في استدامة عمل المصرف وتميُّزه عن عمل الصناديق التي غالباً ما تنشأ لهدف محدد وينتهي دورها مع تحقيق الهدف. ودعا الرئيس عون، وهو رئيس الدورة الحالية ومدتها 4 سنوات، جميع الصناديق السيادية العربية والصناديق الاجتماعية إلى ورشة عمل تُقام في بيروت
ضمن مهلة 3 أشهر لوضع الأسس اللازمة لإنشاء المصرف المشترك مقترحاً أن يكون مركزه الدائم في بيروت.
أما التوافق حول مسألة عودة النازحين السوريين إلى وطنهم فتم بعد مناقشات أجرتها لجنة متخصصة بمتابعة هذا الملف، مع وفود السعودية ومصر والأردن. وتوصل الجميع إلى تعديل الصيغة الأولية التي تدعو المجتمع الدولي إلى “السعي لعودة النازحين الآمنة والطوعية وفق ما تنص عليه القوانين الدولية” والتوصل إلى صيغة جديدة تعتمد مصطلح “العودة الآمنة” من دون ذكر “الطوعية” واعتماد التعبير الذي استخدمه الرئيس ميشال عون القائل بعودة النازحين من دون انتظار الحل السياسي. وتلا وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل بياناً عقب انتهاء الجلسة المغلقة من جلسات القمة أكد على ضرورة “تعزيز ظروف عودة اللاجئين والنازحين بما ينسجم مع الشرعية الدولية ويكفل احترام سيادة الدول المضيفة” لافتاً إلى أن المنطقة العربية تتحمل العبء الأكبر من الأزمة من خلال استضافة العدد الأكبر من النازحين واللاجئين أو المساهمة في تقديم تمويل المساعدات الإنسانية ما أثر سلباً على معدلات النمو والمالية العامة من خلال خسارة الإيرادات وزيادة النفقات وازدياد العجز.
المبادرة القطرية
حضر أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الجلسة الافتتاحية للقمة العربية التنموية رغم انخفاض مستوى التمثيل بشكل عام وغياب الرؤساء وكبار القادة، ما بدا خطوة رمزية تحمل دلالات سياسة ودبلوماسية سرعان ما أكدتها كلمة الوزير باسيل التي قال فيها إن حضور الأمير هو كسْرٌ للحصار المفروض على الجزيرة الخليجية
وعلى قمة بيروت على حد سواء. وكتب أمير قطر على “تويتر” عقب القمة “كان قراري بالمشاركة في القمة طبيعياً من منطلق الحرص على العمل العربي المشترك، الذي بينت القمة الحاجة الملحة لتعزيزه في وجه الأزمات والتحديات التي تواجهنا”.
وأثمرت زيارة أمير قطر لبيروت، إستثماراً في السندات اللبنانية الدولارية (سندات يوروبوندز) بقيمة نصف مليار دولار، ما يُعدّ تمويلاً للاستحقاق الأول في عام 2019 من أصل 3 استحقاقات تبلغ قيمتها الإجمالية أكثر من 5 مليارات دولار مع احتساب الفوائد. علماً أن إشاعات سرت خلال انعقاد القمة تتحدث عن وديعة قطرية في مصرف لبنان بقيمة مليار دولار وعن تكفل قطر بمصاريف عقد القمة، سرعان ما نفتها السفارة القطرية في بيروت وكذلك مصادر مصرف لبنان.
ويُشار إلى أن استثمار قطر في الدَّين العام اللبناني يُعدّ مربحاً لها لأن الدولة اللبنانية لا تتخلّف عن السداد وتدفع أصل المبلغ الذي تستدينه من السوق مع إضافة الفوائد التي لا تقلّ عن 7%.
المبادرة الكويتية
بادرت الكويت ممثلةً بوزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الخالد الصباح، باقتراح إنشاء صندوق للإستثمار في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي برأس مال قدره 200 مليون دولار أميركي بمشاركة القطاع الخاص. وساهمت دولة الكويت بمبلغ 50 مليون دولار، وكذلك ساهمت دولة قطر بمبلغ 50 مليون دولار من رأس مال هذا الصندوق ما يعادل نصف حجمه. وأوكل إلى الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي مسؤولية إدارة هذه المبادرة التنموية، التي تهدف إلى تعزيز الاقتصاد العربي المشترك وتطويره وتحديثه وخلق فرص عمل واعدة للشباب العربي.
في السياسة
غابت كل من سوريا وليبيا عن القمة العربية التنموية: الاقتصادية والاجتماعية المنعقدة بيروت لأسباب مختلفة. سوريا لم تُدع إلى القمة بسبب تعليق عضويتها في جامعة الدول العربية منذ عام 2011 وليبيا امتنعت عن المشاركة بعد إهانة علمها الرسمي في بيروت من قبل على يد عناصر من حركة “أمل” التي يتزعمها رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري والتي تتهم ليبيا باختطاف وإخفاء مؤسس حركة “أمل” السيد موسى الصدر. المقعدان الشاغران، أضْفَيا طابعاً سياسياً على القمة الاقتصادية وأسهما بملء الخطابات والتصريحات بالمواقف السياسية.
وقال جبران باسيل، وزير الخارجية اللبنانية المستضيفة للقمة، خلال الاجتماع التحضيري على مستوى وزراء الخارجية، قال إن سوريا هي الفجوة الأكبر في المؤتمر وأضاف “يجب أن تعود سوريا إلى حضن الجامعة العربية لنوقف الخسارة عن أنفسنا قبل أن نوقفها عن سوريا. يجب أن تكون سوريا في حضن الجامعة العربية بدل أن نرميها في أحضان الإرهاب من دون أن ننتظر إذناً أو سماحاً بعودتها كي لا نسجل على أنفسنا عاراً تاريخياً بتعليق عضويتها بأمر خارجي وبإعادتها بإذن خارجي”.
وكان باسيل قد عبّر عن أسفه لعدم مشاركة ليبيا في أعمال القمة كما عبّر عن رفضه المطلق للأعمال التي أساءت إلى دولة ليبيا وأكد أنها لا تعبّر عن موقف لبنان الرسمي وجدد إصرار لبنان على واجبه الوطني بمعرفة مصير الإمام المغيب
موسى الصدر ورفيقيه وحل هذه المسألة التي عكرت العلاقات بين البلدين لأكثر من أربعة عقود. كما جدد باسيل الطلب من نظيره اللّيبي تقديم كل ما يلزم من مساعدة لمعرفة مصير الإمام المغيّب مكرراً أسفه لما حصل.
وكذلك عبّر أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط عن أسفه لغياب ليبيا عن أعمال القمة من دون ان يذكر سوريا أو يشير إلى غيابها، مبرراً هذا الأمر بالتزامه قرار جامعة الدول العربية القاضي بتجميد عضوية سوريا فيها رغم أنه “لا يرضيه على المستوى الشخصي”.
وغمز أبو الغيط من قناة إيران، في سياق رده على سؤال أحد الصحافيين بالقول إن “الجيران سيأكلوننا”. وفي التفاصيل سأل الصحافي “ما الذي يدفع المواطن العربي للتصديق بأن الجامعة العربية قد تنجح في الاقتصاد حيث فشلت في السياسة؟” فقاطعه أبو الغيط بالقول “تيجي نحل الجامعة العربية وننفرط جمعا وكل واحد يروح في اتجاهه”، فرد عليه الصحافي “غالبية الدول العربية تتآمر على بعضها”. عندها قاطعه أبو الغيط “لو تركنا الجامعة العربية، والمسرح العربي، الجيران سيأكلوننا (…) إذا أردنا تسليم الأراضي العربية للجيران فلنفعل ما تطالب به”.
إعلان بيروت
أقرّ البيان الختامي للقمة العربية التنموية: الاقتصادية والاجتماعية الذي عُرف بـ “إعلان بيروت” 29 بنداً أبرزها:
* ضرورة تكاتف جميع الجهات الدولية المانحة والمنظمات المتخصصة والصناديق العربية من أجل التخفيف من معاناة اللاجئين والنازحين وتأمين تمويل تنفيذ مشاريع تنموية في الدول العربية المستضيفة لهم.
* دعم صمود الشعب الفلسطيني والتأكيد على التفويض الدولي الممنوح لوكالة الأنروا وفقاً لقرار إنشائها، والدعوة لتأمين الموارد والمساهمات المالية اللازمة لموازناتها للاستمرار بعملها
* تبني سياسات استباقية لبناء القدرات التكنولوجية اللازمة والاستفادة من إمكانات الاقتصاد الرقمي وتقديم الدعم للمبادرات الخاصة
* ضرورة متابعة التقدم المحرز في إطار منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى ومتطلبات الاتحاد الجمركي العربي أملاً في الوصول إلى سوق عربية مشتركة
* اعتماد مشروع الميثاق الاسترشادي لتطوير قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر من اجل ضمان اندماج اقتصاديات الدول العربية في ما بينها وخلق مزايا تنافسية
* اعتماد الاستراتيجية العربية للطاقة المستدامة 2030 بُغية تحقيق التطور المستدام لنظام الطاقة العربي انسجاماً مع أهداف الأجندة العالمية 2030 للتنمية المستدامة
* اعتماد الاطار الاستراتيجي العربي للقضاء على الفقر متعدد الأبعاد 2020-2030 بهدف خفض مؤشر الفقر متعدد الابعاد بنسبة 50% بحلول عام 2030
* تعزيز دور القطاع الخاص في عملية التنمية وكذلك تكريس الدور الفاعل للمرأة العربية في مجتمع الاعمال العربي
وتُعقد الدورة الخامسة للقمة العربية التنموية: الاقتصادية والاجتماعية بعد أربعة أعوام في مطلع عام 2023 في الجمهورية الإسلامية الموريتانية لمتابعة ما تم إنجازه من مقررات ودراسة مشاريع جديدة تهم العمل الاقتصادي والاجتماعي والتنموي العربي المشترك.