انطلاق العهد الجديد ودخول حزب الله معترك الاقتصاد يدفعان للأمل بقرب الإصلاح


ينتنظر اللبنانيون اليوم ولادة حكومة الرئيس سعد الحريري في ظلّ وضع اقتصادي ومالي صعب، وأفق لا يوحي بالكثير من الايجابية، على أمل أن تشكّل الحكومة الجديدة محرّكاً مفصليّاً للإصلاح المرتقب والموعود.

ومع مرور مؤتمر سيدر 1 وانتهاء الفترة الانتخابية، يُنتظر اليوم أن يبدأ عهد فخامة رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي كان أعلن منذ تولّى منصبه أنّ عهده يبدأ مع الحكومة الأولى التي تلي الانتخابات النيابية، والتي يصرّ الأفرقاء السياسيين جميعاً على ضرورة ولادتها بأسرع وقت ممكن لكون الوقت في غير صالح البلاد، سواء على الصعيد السياسي والاقليمي بشكل عام، أو على الصعيد الاقتصادي بشكل خاص.

يترافق انطلاق العهد الجديد مع دخول من الباب العريض لمكوّن سياسي وشعبي أساسي الى معترك مكافحة الفساد وإبداء الرأي في الخيارات الاقتصادية هو حزب الله، الذي ارتأى، بعد عقد ونيف من الغياب عن الساحة الاقتصادية، أن يضمّ الى مقاومته العسكرية ضدّ المحتلّ الغازي مقاومةً من نوع جديد، عنوانها اقتصادي – مالي، مع تشديد أمينه العام السيد حسن نصرالله، صاحب الوعد الصادق، على أنّ أولوية الحزب في المرحلة المقبلة ستكون لمكافحة الفساد ومحاربة الخيارات الاقتصادية الخاطئة التي اعتمدت لعقدين من الزمن وأثبتت فشلها، من خلال الدعوة الى المحاسبة، والى إنشاء وزارة تخطيط، ليضمّ صوته الى الرئيس عون بالدعوة الى إعادة بناء اقتصاد حقيقي يقوم على الصناعة والزراعة والخدمات، بدلاً من الاعتماد الكلّي على الريع.

 

الأزمة حرجة.. والحلّ بمقاربة اقتصادية تعيد تكوين أسس الاقتصاد

“لا وقت اليوم للترف” تشير مصادر مالية مطّلعة لـ”الإعمار والاقتصاد”، “فالوضع الاقتصادي مأزوم بإجماع الجميع، حيث أنّ حتى صندوق النقد الدولي يرى أنّ البلد لن يستقيم في ظلّ الخلل البنيوي الموجود، علماً أنّ الإصلاح الهيكلي بات ضرورة ملحّة”. أمّا في ما خصّ الوضع المالي، تشير المصادر عينها الى أنّ “الوضع المالي حساس وحرج، بمعنى أنّ لبنان يصدّر ملياري دولار ويستورد 20 ملياراً حيث أنّ الحاجة الى العملة الصعبة تدخل في صلب الحياة اليومية لأي لبناني، وهذه الهوّة القائمة ستصل الى مكان، في ظلّ الحرب المالية السعودية القائمة علينا والتي لم تتوقّف ليوم منذ اعتقال الرئيس سعد الحريري في الرياض في تشرين الثاني الماضي، ستطيح هذه الهوة بالمنظومة السائدة. اليوم، المؤشرات المالية والنقدية تسمح للبنان في المدى المنظور أن يحافظ على وضعيته، ولكنّ ذلك لا يعني أن ثمّة وقت للترف والمسايرة !”.

هنا، تشير المصادر الى أنّ “الاقتصاد اللبناني قائم منذ ما قبل الحرب الأهلية على تهميش الصناعة والزراعة في مقابل تشجيع الريع، على أنّه قبل 25 عاماً، أي بعد اتفاق الطائف، تكرّس هذا النهج بضرب القطاعات الانتاجية وتثبيت تمويل لبنان بالعجز ومنطق الريع، الذي يقوم على السمسرة المالية والعقارية، مع الإشارة الى أنّ النظام الريعي بطبيعته مولّد للفساد، لكون المرء لا يجني ثمرة تعبه، بل يبحث عن الصفقات. اليوم وصلت البلاد الى نقطة باتت معها كلفة استمرار هذا النموذج عالية لدرجة تكاد تطيح بأساسات البلد الاقتصادية”.

وتضيف المصادر أنّ “الجميع اليوم ينتقد العلاجات المبتكرة كالهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان، لكنّ أحداً لا يبحث عن سبب العلّة، التي يمكن تلخيصها بوجود مجموعات من الناس الذين يقيمون احتكارات ومافيات، كلّ في قطاعه، وهي احتكارات قائمة على الاستيراد الكامل من الخارج، بالتوازي مع ضرب الانتاج المحلي. من يريد أن يطلق عجلة الإصلاح فعلياً، عليه أن يبدأ بالتفكير بكيفية تقليل كمّ العملة الصعبة التي يحتاج البلد لاستيرادها، وبالتالي البحث بخفض خدمة الدين. ذلك يتطلّب أولاً اقتناع الحاكمين ورجال السلطة بأنّ لبنان لم يعد يملك الاحتياطات التي سمحت لهم في السابق باستغلاله لدرجة الهلاك. لذلك، لم بعد من الممكن استباحة البلاد بالطريقة التي كانت سائدة”.

 

باريس 4 لائحة مشاريع لا تقارب أسباب الخلل البنيوي

من جهته، يرى مصدر اقتصادي عليم في حديث لـ”الإعمار والاقتصاد” أنّ “الضرورة اليوم تكمن في معالجة سبب الخلل البنيوي في الاقتصاد اللبناني، وهو الاعتماد الكامل على نظم الريع. ولذلك لا بدّ من إعادة تفعيل القطاعات الإنتاجية لتشكّل الرافعة الحقيقية للاقتصاد الذي لم يعد يحتمل محاولات ترقيع على غرار ما شهدناه طوال السنوات الماضية”.

وفي حين يقدّر المصدر عيته أنّ القوى السياسية الأساسية كلّها مجمعة على ضرورة ايجاد حلّ للأزمة الاقتصادية الموجودة، إلّا أنّ القوى السياسية عينها غير مدركة لحجم المخاطر، وإن كانت مدركة فإنّ نمط التصرّف ليس على القدر المطلوب، وهو ما يعني بطبيعة الحال أنّ حجم المصالح المتحكّم اليوم بتركيبة الاقتصاد عند كلّ الأطراف لا يزال أعلى من مصلحة البلد. وبرأي المصدر أنّ عدم معالجة الأزمة، أو تأجيل معالجتها نتيجة توازنات معيّنة، يؤدّي مع كلّ يوم يمرّ الى زيادة كلفة الخسارة، ويؤدّي الى أن يصبح الإصلاح مكلفاً أكثر فأكثر، هذا في حال بقيت الفرص متوفّرة !

هنا يسأل المصدر: “كيف يستقيم حديث السياسيين عن ضرورة إعادة الاعتبار للقطاعات الإنتالجية مع فكرة باريس 4؟ مؤتمر سيدر 1 أو باريس 4 هو عبارة عن لائحة مشاريع جوهرها “الشراكة بين القطاعين العام والخاص”. حين تكون الدولة موجودة وقادرة، عندئذ يمكن الحديث عن الشراكة. ألم يخبرونا أنّه سيتمّ بتّ كلّ مشروع على حدة في مجلس الوزراء قبل بحثه في مجلس النواب؟ فكيف إذاً تمّ تعيين 13 مستشاراً في رئاسة الحكومة قبل بضعة أيام، ليقوم المستشارون بعدها بجولة على بعض الدول لعرض المشاريع الممكن العمل بها ؟ في غياب الدولة، تصبح الشراكة غطاء للتلزيم بالتراضي”.

يضيف المصدر أنّ “باريس 4 هو عملية بيع موضوفة لأساسات القطاع العام. والسؤال يبقى: أين سنصل بعد بيع الأساسات دون حلّ المشكلة الأساسية؟ المفارقة أنّ بعض الرموز الذين يسوّقون اليوم لباريس 4، كانوا هم مستشارين صغار حين سوّقوا في العام 1993 و1995 و1998 لخطّة نهوض لبنان وخطّة إعمار لبنان. هم أنفسهم وقفوا عام 1996 في أحد المؤتمرات ليخبرونا أنّه في العام 1998 ستتوازن الموازنة، وسيتمّ تمويل عملية إعادة الإعمار من فائض الموازنة ! هؤلاء أنفسهم يخبروننا اليوم أنّ مؤتمر باريس 4 إن سار كما يريدون، سيأتي بحلول لمشاكلنا ! إن كانت هذه المقاربة السحرية لم تنجح طوال ربع قرن، فلماذا يجب علينا إذاً القبول بهذا الحديث ؟!”.

 

قرار حزب الله مكافحة الفساد يستوجب مستوى جديد من التعاطي..

يعتبر المصدر أنّ ثمّة خطوات لازم اتباعها “أولها، فصل الإدارة عن الزبائنية، بحيث لا يحتاج المواطن الى إذن الزعيم أو الى الواسطة للحصول على أبسط حقوقه، علماً أنّ النظام الحالي قائم على أنّ خدمات الإدارة التي يحقّ للمواطن بها هي مكرمة، وهو أمر لا يستقيم في عهد الإصلاح !”. الى ذلك، يؤكّد المصدر على ضرورة إرساء مبدأ المحاسبة، بحيث يبدأ العمل على الملفات الأساسية كالأحد عشر مليار دولار التي اختفت والتي لا يمكن مساءلة من كان مسؤولاً عنها بحجة الحفاظ على السلم الأهلي واحترام التوازنات السياسية والطائفية !

يتطرّق المصدر الى قرار حزب الله الدخول الى معترك الاقتصاد، فيشير الى أنّ “خطاب السيد نصرالله الأول الذي أعلن خلاله عن رؤية اقتصادية تبدأ من وزارة للتخطيط مروراً بإجراءات ملموسة لمكافحة الفساد، لا يشبه المقاربة التي أوردها في خاتمة خطابه الثاني الذي تكلّم خلاله عن مساحة مشتركة بين كلّ القوى. لذلك، من الضروري التذكير أنّ الوضع مأزوم لدرجة لا يسمح معها بأنصاف حلول. الدعوة هي إذاً لمقاربة اقتصادية عقلانية تأخذ بعين الاعتبار حجم المخاطر وتستلزم بالضرورة مستوى من التعاطي مع أقرب الحلفاء الى أبعد قوة سياسية وفق برنامج واضح، وهو ما يرتّب نمطاً معيّناً من التعاطي سواء في تشكيل الحكومة، أو في مقاربة باريس 4، أو في تحليل عمل الإدارة العامة”.

 

المفارقة اليوم هي إذاً بين خيارين لا ثالث لهما: إمّا تجميل الصورة من خلال تحسين الأداء الى حدّ معيّن، أو الدخول الى لبّ المشكلة والبحث بكيفية إصلاح هيكل الاقتصاد اللبناني، وذلك لا يكون الّا من خلال مكافحة الفساد بشكل فعلي، وأخذ خيارات تعيد تركيب أسس لاقتصاد حقيقي قائم على دعم القطاعات الانتاجية التي هُمّشت لعقود خلت، ليخفّف الانتاج المحلي من الحاجة السنوية الى مليارات الدولارات، في مقابل خلق فرص عمل لآلاف الشباب والعاطلين عن العمل، مع ما سيشكّله ذلك من إعادة تنشيط للدورة الاقتصادية ستترافق حكماً بتغيّرات اجتماعية عديدة تقلّل من هجرة الأدمغة الى الخارج، ونزوح سكان الأطراف الى العاصمة بيروت.

على أمل أن يرقى عهد لبنان القوي الى اسمه، فيبحث عن السبل لاستنهاض الاقتصاد الوطني من خلال اعتماد مقاربة اقتصادية جديدة تعيد الاعتبار للقطاعات الانتاجية، بدلاً عن تلك التي أرزحت البلاد تحت دين طاول الثمانين مليار دولار بحجّة أن الانتظار قليلاً سيأتي بالمنّ والسلوى.. ليبقى السؤال: أما اكتفينا الانتظار ؟

(بالتعاون مع صحيفة الاعمار والاقتصاد)

Author: Firas M

Share This Post On

Submit a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Top

Pin It on Pinterest

Share This

مشاركة

شارك هذا المقال مع صديق!