ليز سلاي – (نيويورك تايمز) 20/2/2016 ترجمة: عبد الرحمن الحسيني إسطنبول، تركيا- تواجه تركيا ما يرقى إلى أن يكون كابوساً استراتيجياً؛ حيث تنفجر القنابل في مدنها، ويرابط الأعداء على تخومها، ويبدو حلفاؤها وأنهم يهملون مطالبها. قبل ما لا يزيد على أربع سنوات، بدت تركيا مهيأة لتكون أحد أكبر الكاسبين من الربيع العربي، كقوة صاعدة يمتدحها الغرب ويعتبرها نموذجاً، كما تعتنقها منطقة تسعى إلى جهات رعاية جديدة وأشكال جديدة من الحكم. لكن كل ذلك تبخر منذ فشل الثورات العربية، والتحولات التي حدثت في المشهد الجيوسياسي، ومسارات الحرب السورية. تقوم روسيا، أقدم وأقرب خصم لتركيا، بتوسيع تواجدها حول حدود تركيا -في سورية إلى الجنوب وفي القرم وأوكرانيا وأرمينيا إلى الشرق. وفي الأسبوع الماضي، أعلن وزير الدفاع الروسي نشر دفعة جديدة من الطائرات المقاتلة الروسية والطائرات العمودية الهجومية في قاعدة جوية خارج العاصمة الأرمينية، يريفان، التي تبعد 25 ميلاً عن الحدود التركية. كما أن الضربات الارتدادية من الحرب السورية، على شكل سلسلة من التفجيرات الانتحارية في إسطنبول وأنقرة، والتي كانت آخرها يوم الأربعاء من الأسبوع قبل الماضي، جلبت الهلع إلى الشوارع التركية وأضرت بصناعة السياحة التركية الحيوية. كما أغرق انهيار عملية السلام مع أكراد تركيا جنوب شرق البلد في أتون حرب بين الأكراد والجيش التركي، بينما يقوم الأكراد السوريون بنحت شبه دولة لأنفسهم في أراضٍ تحاذي حدود تركيا. ويعاني الاقتصاد التركي من الركود؛ حيث تعصف به المخاوف من عدم الاستقرار ومن العقوبات التي فرضتها موسكو واستهدفت السلع التركية ومصادر عوائدها، مثل البندورة والسياحة التركيتين، رداً على إسقاط تركيا طائرة روسية مقاتلة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وفي الغضون، تنتشر المخاوف من احتمال المزيد من تصاعد التوترات في تركيا وفي المجموعة الدولية على حد سواء، وهو ما حدا بالرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، إلى التحذير يوم الجمعة قبل الماضي من أن “ثمة خطر اندلاع حرب بين تركيا وروسيا”. يقول غوكهان باشيك، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة “ايبيك” في أنقرة: “إن تركيا بصدد مواجهة كارثة متعددة الأوجه. إنها بلد غالباً ما كانت لديه مشاكل في الماضي، لكن مدى ما يحدث راهناً يفوق قدرة تركيا على الاستيعاب”. يضاف إلى ذلك حقيقة أن الشقاق مع الولايات المتحدة، أوثق حلفاء تركيا وأكثرهم حسماً، حول وضع الميليشيا السورية الكردية الرئيسية، وحدات حماية الشعب الكردية، زادت من تعرية ضعف تركيا. وقد رفضت وزارة الخارجية الأميركية مؤخراً طلب الرئيس رجب طيب أردوغان أن تختار واشنطن بين تركيا الحليفة في الناتو وبين وحدات حماية الشعب الكردية، حليف واشنطن الرئيسي في الحرب ضد “الدولة الإسلامية”، على الرغم من مزاعم تركيا بأن وحدات حماية الشعب نفذت تفجيراً في أنقرة. وفي الأسبوع الماضي، أكدت تركيا موقفها وطالبت بدعم غير مشروط من الولايات المتحدة. وقال رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو للصحفيين: “الشيء الوحيد الذي نتوقعه من حليفنا الأميركي هو دعم تركيا بلا قيد ولا شرط”. وتقف تركيا الآن معزولة تماماً، عالقة في متاهة من المآزق التي جاء جزء منها من صنعها هي، كما يقول سولي أوزيل، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة قادر حاس في إسطنبول. وأضاف أوزيل: “لقد نفّّرت الجميع وهي ولا تستطيع إقناع أي أحد بفعل أي شيء. إنها بلد لم تعد كلماته تحمل أي وزن. إنها تخادع ولكنها لا تنفذ. وهي لا تستطيع حماية مصالحها الحيوية وهي في خلاف الجميع، بمن فيهم حلفاؤها. وبالنسبة لبلد ظل يُنظر إليه حتى وقت متأخر كقوة إقليمية ناشئة، فإن هذه الحقائق تدهشني وتشكل كارثة كاملة”. وكان الأحدث هو تألم تركيا مؤخراً من الديناميات المتغيرة بسرعة على طول حدودها الجنوبية مع سورية؛ حيث تشن روسيا غارات القصف، وحيث يتقدم الأكراد، وحيث يواجه الثوار الذين دعمتهم ضد الرئيس بشار الأسد في الأعوام الخمسة الماضية الهزيمة. وسوف يجلب إرسال قوات إلى سورية، كما كانت تركيا قد ألمحت، خطر إشعال فتيل مواجهة مع روسيا، والتي من المؤكد أن تخسرها تركيا كما يقول محللون. وكان إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي سوء احتساب رئيسيا. فقد قوض الحادث قدرة تركيا على عرض قوتها ونفوذها في داخل سورية، ومنعها من إرسال مهمات طيران إلى هناك -حتى لدعم الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد “الدولة الإسلامية”. ويعني عدم التدخل التركي هناك القبول بحتمية نشوء جيب كردي للحكم الذاتي في شمالي سورية، والذي يحد المنطقة الكردية المتوترة في تركيا، بالإضافة إلى إلحاق الهزيمة بالثوار الذين كانت تركيا قد أملت في أن يطيحوا بالأسد ويصنعوا عرضاً للنفوذ التركي في العالم العربي. حتى الآن، قصرت تركيا ردها في سورية على القصف المدفعي ضد القوات الكردية المتقدمة وعلى جهود تعزيز الثوار. وأكد مقاتل من الثوار في بلدة عزاز الحدودية، والذي تحدث شريطة عدم الإفصاح عن هويته نظراً لحساسية الموضوع، صحة تقارير متعددة بأن تركيا سهلت انتشار مئات عدة من المقاتلين الثوار من محافظة إدلب إلى داخل حلب، عبر الأراضي التركية. وفي الأثناء، سعى أردوغان من دون نجاح إلى تجديد الضغط على الولايات المتحدة للموافقة على اقتراحات تركية طالما طرحت لإقامة منطقة آمنة في شمالي سورية، والتي يكون من شأنها توفير حماية للمدنيين السوريين الساعين للجوء هرباً من القتال على طول حدود تركيا. ويعتقد معظم المراقبين أن من غير المرجح حدوث تدخل عسكري تركي مباشر للوقت الحالي على الأقل. ولا يوجد في تركيا دعم شعبي لخوض حرب أو دعمها في داخل القوات المسلحة أيضاً. وكانت مجموعة من أكثر من 200 أكاديمي قد وقعوا على عريضة في الأسبوع الماضي، والتي تحث تركيا على عدم الذهاب إلى الحرب في سورية. كما أن الجيش أعلن أنه غير راغب في إرسال قوات عبر الحدود من دون موافقة مجلس الأمن الدولي. لكن ذلك لم يردع أردوغان عن الاستمرار بالتهديد بالقيام بعمل ورسم الخطوط الحمراء. ويبدو أنه يغرق صانعي السياسة الأتراك أعمق في حفرة لا مهرب واضحاً منها. وقال مؤخراً إن سقوط عزاز التي يسيطر عليها الثوار بأيدي الأكراد المتقدمين سيكون “خطاً أحمر”، وتعهد بأن لن تسمح تركيا بخلق ملجأ للأكراد المتشددين في سورية. لكن مأزق تركيا ليس من فعل أيديها كلية. فلم يكن بالوسع التنبؤ ببعض الاتجاهات العالمية الأوسع -مثل قوة روسيا المتزايدة وتراجع اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط- عندما شرعت تركيا في وضع سياستها الخارجية الطموحة في وقت سابق من هذا العقد، كما يقول محللون. لكن أردوغان أساء الحكم فيما يبدو على مدى تأثير الأطر المتحولة على الحد من قدرة تركيا على المناورة، وفق هنري باركي، الخبير في الشؤون التركية في مركز ويلسون في واشنطن. وقال باركي: “لقد أساء أردوغان إدارة السياسة الخارجية بسبب إفراطه في الثقة بنفسه”. وأضاف: “كان مفرطاً في الثقة في العام 2010 باعتبار أن تركيا حبيبة العالم، ودخل ذلك إلى رأسه. ثمة تراجعات ليست من صنعه، لكن الكيفية التي أدار بها تلك التراجعات من صنعه هو”. عندما يواجه أردوغان تحديات غير منظورة في طموحاته المحلية -وبشكل ملحوظ خططه لتعديل دستور تركيا لتعزيز صلاحياته الرئاسية- فإنه لا يمكن استبعاد المزيد من الخطوات الخاطئة، كما قال باسيك، الأستاذ الجامعي في أنقرة. وأضاف باسيك: “أنا لا أقول إن تركيا فقدت صوابها وأنها مستعدة لخوض حرب. لكن المشهد في أنقرة غريب جداً وقد يفضي إلى مفاجآت. إن ما يجري في سورية هو مسألة بقاء بالنسبة لأردوغان، ولذلك لا يجب استبعاد أي شيء”. وقال أيضاً: “بالنسبة لتركيا، ليس هناك سيناريو جيد من الآن فصاعداً”. *نشرت هذه القراءة تحت عنوان:Turkey’s increasingly desperate predicament poses real dangers