في وقتٍ تحولت فيه الساحة السورية إلى صندوق بريد، يعج بالرسائل السياسية والعسكرية، المتبادلة بين الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية.
حملت زيارة سيرغي شويغو المفاجئة إلى سوريا أكثر من رسالة. والرسالة الأولى، التي حملتها زيارة وزير الدفاع الروسي، تؤكد العلاقة الاستراتيجية التي جمعت بين البلدين تاريخياً، وتعززت أواصرها اليوم، في ظل تحالف وثيق بدأ على الأرض في الـ 30 من سبتمبر/أيلول 2015، مع بدء العملية الجوية الروسية في سوريا، استجابةً لطلب من حكومتها الشرعية.
خلال هذه الفترة، قدمت روسيا دعماً منقطع النظير للجيش السوري في معاركه ضد التنظيمات الإرهابية والفصائل الأخرى المتحالفة معها، أثمر تحرير عشرات المناطق والبلدات والقرى.
وفي الواقع، فقد جاءت زيارة المسؤول الروسي لتقول إن هذه العلاقة، التي يثار حولها الكثير من اللغط في وسائل الإعلام الغربية والعربية، تبدو اليوم في أحسن حالاتها. فالتنسيق مستمر بين الدولتين والجيشين وعلى أكثر من مستوى. خاصةً أن هذه الزيارة تأتي في أعقاب اجتماع بالغ الأهمية شهدته طهران بين وزراء دفاع البلدان الثلاثة (روسيا وسوريا وإيران)، والذي قد تكون زيارة سيرغي شويغو إلى دمشق، في أحد جوانبها، استكمالاً لما تمت مناقشته في اجتماع طهران، لجهة الخوض في التفاصيل النهائية للخطط التي تم وضعها هناك، والتي تعني بشكل أساس الدولة التي تعدُّ أراضيها مسرحاً للعمليات، وهي سوريا في هذه الحالة.
ولا شك في أن زيارة المسؤول الروسي تحمل فيما تحمل أيضاً مؤشرات بالغة الدلالة. وذلك، لأنها أعقبت موجة عاتية من التصريحات والتهديدات الأمريكية للبلدين الحليفين: بدأها كيري الذي نفد صبره من روسيا في سوريا، قبل أن يتراجع عن كلامه؛ وتابعها موظفو الخارجية الأمريكية الذين طالبوا الرئيس أوباما بضرب مواقع الجيش السوري وإسقاط الحكومة، قبل أن يختتمها رئيس أركان القوات الجوية الأمريكية ديفيد غولدفين، بإعلانه عن استعداد واشنطن لإنشاء منطقة حظر جوي في سوريا، مشترطاً الحصول على الإذن، لتحقيق ذلك باستهداف الطائرات الروسية والسورية.
الوزير شويغو رد مباشرةً، ومن حميميم على كل ما سبق؛ حيث تفقد خلال زيارته إلى سوريا أداء النوبة العسكرية في مركز قيادة وحدة الدفاع الجوي ومنصات الإطلاق التابعة لمنظومة “إس-400” الصاروخية للدفاع الجوي. كما تفقد جاهزية الطاقم القتالي للمنظومة، وهو ما يمثل ردا عمليا ومن الأرض على التلويح الأميركي بإمكانية قصف قطعات من الجيش السوري وإسقاط طائرات روسية. كما يُعد رسالة وعيدٍ للأتراك، الذين يشكلون الداعم الرئيس لـ”جبهة النصرة”، وحلفائها في حلب.
وقد سبقت رد سيرغي شويغو الميداني هذا سلسلة من الردود الروسية، جاءت من وزارة الخارجية التي حذرت من مغبة التدخل في سوريا، ومن الكرملين الذي صرح الناطق باسمه بأن إطاحة السلطة في سوريا ستغرق المنطقة في الفوضى.
أما الرد الأهم، فقد جاء من الرئيس بوتين في منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، بأن الحل في سوريا يكمن في محاربة الإرهاب، والانخراط في عملية وضع دستور جديد، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. وهي رسالة واضحة إلى ذوي الرؤوس الحامية في واشنطن – أنْ كفاكم وعيداً، فكل هذا التهديد لن يغير شيئاً، وأن ثمة طريقا وحيدا لحل الأزمة هو الحل السياسي.
وسرعان ما خفف البيت الأبيض من زخم التهديدات بالعسكرة بتصريحٍ للمتحدثة باسمه جنيفر فريدمان بأن الرئيس أوباما لا يرى أي إمكانية لحل عسكري للأزمة السورية.
أما صحيفة “نيويورك تايمز” المقربة من مراكز صنع القرار، فخرجت في اليوم التالي بعنوان “ستة أسباب تمنع واشنطن من شن حرب ضد الأسد”، وعلى رأس هذه الأسباب “الخشية من تطور النزاع إلى حرب مع روسيا والصين”.
على صعيد آخر، قالت مصادر “مطلعة” في دمشق لصحيفة “ميسلون” السورية إن زيارة شويغو تهدف فيما تهدف إلى طمأنة الرئيس الأسد على انتهاء فترة الهدنة في حلب، وعودة الجهد الحربي الروسي إلى ميادينها، بعدما تمكنت “جبهة النصرة” وحليفاتها من السيطرة على ثلاث بلدات استراتيجية في ريف حلب الجنوبي، ما يهدد بلدة الحاضر، ويمكِّن الإرهابيين من محاصرة القوات السورية داخل حلب.
المصادر نفسها تحدثت عن بعض تفاصيل الرسالة، التي حملها شويغو من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرئيس بشار الأسد، والتي تتعلق بالخطة المقررة لضرب “جبهة النصرة” وما يسمى بـ”جيش الفتح”. خاصةً أنها تزامنت مع نهاية الساعات الثماني والأربعين من مهلة الهدنة التي أعطتها موسكو للجماعات المسلحة للانفصال عن جبهة النصرة.
وما يمكن قوله عقب اجتماع طهران، ثم “اجتماع دمشق”، هو إن اتفاقاً قد نضج بين روسيا وسوريا وإيران للبدء بمعركة حلب – الأكثر أهميةً وحساسية –، وكذلك متابعة التقدم نحو الرقة ودير الزور.
وفي المعركة الأكثر أهمية – حلب -، هذا يعني تجاهل المطالب الأميركية بتأجيلها إلى حين قيام واشنطن بالفصل بين “المعتدلين” والإرهابيين. لأن موسكو باتت على قناعة بأن واشنطن لم تنظر إلى هذا المطلب يوماً بجدية. وإن كان كذلك، فإنها فشلت في تحقيقه، وكل يوم إضافي يعني تقدماً لـ”جبهة النصرة” و”جيش الفتح” نحو مواقع جديدة للقوات السورية.
بيد أن الأنباء تتوارد، اليوم (19/06/2016)، من “تنسيقيات” المسلحين عن حجم خسائرهم نتيجة القصف الروسي لمراكزهم وتجمعاتهم في شمال حلب؛ حيث اعترفت هذه التنسيقيات بمقتل 167 من عناصر “جيش الفتح”، الذي يضم مجموعة من الفصائل أبرزها “جبهة النصرة”، بينهم عشرات القياديين.
كذلك الأمر في محافظة إدلب التي تعتبر “عاصمة” “جبهة النصرة” وخزانها البشري الأكبر؛ حيث شنت الطائرات الروسية غارات جوية على عمق المحافظة، بما في ذلك القصف الكثيف لتجمعات الإرهابيين في معرة النعمان، ما أسفر عن سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى.
يبدو أن زيارة شويغو أخذت مفاعيلها، قبل أن تنجلي تفاصيلها.. فما الذي ستكشفه الأيام المقبلة أيضاً؟
علي حسون