ادفعوا بالروبل: روسيا تربط عملتها بالذهب والمشتقات النفطية


كتب ماهر سلامة في جريدة “الأخبار”:

تنتشر في الإعلام الغربي مقالات الاستغراب حول عدم نفع العقوبات الاقتصادية على روسيا مقابل تحسّن قيمة الروبل، ما أثار الشكوك بشأن جدوى سياسة العقوبات وقدرتها على التأثير كأداة تستخدم في الحروب. ففي مقابل هذه الأداة، يبدو أن تدابير المقاومة التي لجأت إليها القيادة الروسية كانت محكمة للتخلّص من عقود من السياسات التي جعلت الروبل خاضعاً للنظام المالي العالمي، وتمهّد لإنهاء التبعية للدولار في سياق محاولة إعادة السيادة إلى الاقتصاد الروسي

ما هو واضح لغاية الآن، أن الحرب الاقتصادية على روسيا، بما فيها العقوبات والتهديدات، لم تؤثّر على الروبل إلا بشكل محدود ولفترة وجيزة فقط. فمع بدء إجراءات المصرف المركزي الروسي، أصبح الروبل يحقّق مكاسب رفعت قيمته مقابل الدولار من 140 روبلاً مقابل كل دولار في بداية الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات على روسيا، إلى 62 روبلاً أخيراً.

هذه السرعة في التعافي لا تشير إلى أن الإجراءات الروسية تأتي من ضمن قواعد اللعبة التي يفرضها النظام النقدي والمالي العالمي على الجميع في عصر ما بعد «بريتون وودز»، بل من خارج هذا السياق بالكامل نحو الجذور الأساسية لما قبل «بريتون وودز».

الصراع من أجل السيادة

منذ الأربعينيات، يعيش العالم ضمن قواعد الرأسمالية بكل درجاتها المحافظة والمتطرّفة. كانت عملات الدول تقاس بالدولار الذي يقاس بدوره بالذهب. وفي العقود الثمانية الأخيرة، سيطر الدولار على عملية القياس بالكامل، إذ لم يعد ممكناً قياس الثروة أو قوّة اقتصاد أيّ بلد بمعزل عن الدولار. الخروج من هذه الحلقة المتجذّرة في علاقات الدول السياسية والاقتصادية، أو حتى مجرّد محاولة الخروج منها، ليس أمراً عابراً، بل يعني استعادة السيادة الاقتصادية. لذا، يمكن القول إن ما تفعله روسيا اليوم في مواجهة العقوبات الأميركية وسياساتها في منطقة أوروبا الشرقية، ليس سوى محاولة لقطع الطريق على الهيمنة الاقتصادية الأميركية عليها.

مفهوم السيادة في التاريخ الحديث معقّد قليلاً. تَظهر العديد من البلدان أنها سيادية، مع أنها في الحقيقة لا تملك قرارها التامّ. وبحسب تعريف الكاتب الروسي نوكولاي ستاريكوف، في كتابه «تأميم الروبل – الطريق إلى حرية روسيا»، فإن هناك خمس نقاط تحدد سيادة الدولة من عدمها:

1- اعتراف المجتمع الدولي بإقليم الدولة المعنية، أي الاعتراف بالجغرافيا التي تحدّدها، بالإضافة إلى علمها ونشيدها الوطني.

2- السيادة الدبلوماسية، بمعنى قدرة الدولة على تطبيق سياسة دولية مستقلة، ما يعني أن الدولة يجب أن تكون حرّة في اختيار أصدقائها وأعدائها. فمثلاً إذا كانت الدولة على علاقة جيدة بإيران، فلن تهتم أبداً بأن السلطة في هذا البلد في يد نظام لا يتمتع بشعبية في الولايات المتحدة.

3- السيادة العسكرية، أي القدرة على صدّ المعتدي وتوفير الأمن للدولة وحلفائها.

4- السيادة الاقتصادية – التنمية الاقتصادية والصناعية التي تكفل النهوض بالبلاد من خلال مواردها الداخلية.

5- السيادة الثقافية.

في سياق هذه النقاط الخمس، طبقاً لتعريف ستاريكوف، بدأت روسيا تفقد سيادتها منذ أيام الاتحاد السوفياتي؛ أولاً مع ضمور السيادة الثقافية اعتباراً منذ الخمسينيات، إذ بات نمط الحياة الغربي يستقطب الروس ويمثّل لهم التقدّم والتطوّر. وفي أيام ميخائيل غورباتشيف، تخلّى الاتحاد السوفياتي عن السيادة العسكرية والدبلوماسية من خلال إلغاء برامجه الصاروخية وسحب قواته من أماكن انتشارها حول العالم، فضلاً عن تفكيك حلف وارسو، وبذلك تخلّى عن حلفائه أيضاً سعياً لإرضاء المجتمع الدولي. وفي آخر أيام الاتحاد السوفياتي، انطلقت عملية لبرَلة الاقتصاد ليتخلّى أيضاً عن سيادته الاقتصادية. واستمرّ هذا الأمر مع نشوء الدولة الروسيّة ليتحوّل الروبل إلى عملة خاضعة لقواعد النظام المالي العالمي، ما جعله رهينة تدفّق عملات الاحتياطات «الصعبة» (الدولار بشكل خاص) إلى البلد. بمعنى أوضح، صارت كميات الروبل الموجودة في الأسواق محكومة بكميات العملات الصعبة الموجودة في الاحتياطات.

الخضوع للدولار

انخرط الروبل بشكل كامل في النظام النقدي العالمي انطلاقاً من أمرين:

– أولاً، يتّسم النظام المالي العالمي بأنه يتكئ على الدولار. أي أن الدولار هو العملة المهيمنة وكل شيء يتمحور حوله. أهم أسعار السلع الأساسية محدّدة بالدولار مثل النفط والغاز والذهب والمعادن والغازات النادرة ومشتقاتها. ما يعني أن أكلاف الإنتاج وأسعار مبيع السلع النهائية يتم تحديدها بالدولار. فعلى سبيل المثال، شراء الغاز أو النيكل يفرض على المشتري تحويل العملة التي يملكها إلى دولار ليتمكن من شراء السلعة. هذا ما يخلق طلباً كبيراً على العملة الخضراء ويرفع قيمتها.

– ثانياً، إلى جانب الهيمنة على الأسعار العالمية، اصبح الدولار وسيلة رئيسية للادخار وحفظ الثروة. المقصود ادخار الدول من خلال احتياطياتها بالعملات الأجنبية والذهب، علماً بأن النسبة الأكبر منها هي بالعملة الخضراء كونها العملة الأكثر استخداماً حول العالم. ومع أن حصّة الدولار من الاحتياطات العالمية تقلّصت في السنوات الماضية، إلا أن ذلك لم يحدّ من هيمنة الدولار على العالم.

هاتان النقطتان تفسّران العلاقة بين النظام النقدي الروسي، والنظام النقدي العالمي. فالاقتصاد الروسي يعتمد على صادرات منتجات الطاقة التي تمثّل المصدر الرئيسي لتدفّق العملات الصعبة إلى روسيا. ووفق آليات عمل النظام النقدي الروسي التي تعدّ «هجينة»، فإن للعملات الصعبة أهميّة بالغة، إذ يشير الباحث سيرغي ألكساشينكو، في دراسة نشرها معهد كارنيغي – موسكو تحت عنوان «صراع سياسة العملة الروسية»، إلى أن المصرف المركزي الروسي يعتمد رسمياً على نظام سعر صرف معوّم، إنما يقوم في الوقت نفسه بدور «مجلس النقد» الذي يتدخّل في السوق للسيطرة على سعر الصرف. اللافت أنه لا وجود لأي تشريع أو قرار رسمي روسي يقونن طريقة عمل البنك المركزي ويحدّدها كـ«مجلس النقد». فعلى سبيل المثال، إذا صدّرت روسيا برميلاً من النفط مقابل 100 دولار، يتدخّل المصرف المركزي لشراء هذه الدولارات من المصدّر وامتصاصها ضمن احتياطاته بالعملات الأجنبية، وفي المقابل يضخّ كميات موازية من الروبل في السوق. بهذه الطريقة يحاول المصرف المركزي أن تكون الكتلة النقدية المتوافرة في السوق مغطاة بشكل كامل باحتياطات بالعملات الأجنبية، ما يتيح له التحكّم بالتضخّم وبسعر صرف العملة.

للمقال الكامل : https://al-akhbar.com/Capital/337417?utm_source=tw&utm_medium=social&utm_campaign=paper

Author: Rachelle.kayrouz

Share This Post On

Submit a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Top

Pin It on Pinterest

Share This

مشاركة

شارك هذا المقال مع صديق!