طرح انفجار مرفأ بيروت في الرابع من شهر اب 2020 مسألة دور ومستقبل العاصمة اللبنانية بيروت الاقتصادي في المحاور الاقليمية، خاصة بعد حركة التطبيع التي شهدتها دول المنطقة والتي دفع باتجاهها الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب.
في قراءة سريعة للواقع الاقتصادي لدول المنطقة يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات التي تشكل قاعدة لبناء تصور عن الدور المقرر لبيروت خاصة بعد الحرب الاقتصادية المعلنة عليها والتي بدأت منذ عام 2019. يضم محور دول المشرق لبنان، سوريا والعراق وهو مكون من اكثر من 70 مليون نسمة بحسب البنك الدولي وهو كفيل بتامين حاضنة اقتصادية لمرفأ بيروت المرتبط بالمدن الرئيسية للعراق وسوريا كما هو مبين في الجدول رقم 2 المرفق.
ان المسافة التي تربط بيروت ببغداد مرورا بالشام عبر الطريق البرية تمتد على 934 كم بينما تلك التي تربط مرفأ حيفا بمنطقة جبل علي في دبي هي 2595 كم.
لا شك ان اقتصاد محور السعودية، الاردن، الامارات العربية، قطر، الكويت وعمان يشكل حجما اقتصاديا كبيرا يفوق محور دول المشرق. علما انه على الصعيد الجيو استراتيجي والجغرافي، تشكل دول المحور المشرقي ممرا الزاميا لتركيا نحو الخليج وشرق اسيا. والواجب الاشارة له في هذا السياق، ان قطاعات عديدة في دول محور المشرق ممكن ان تتكامل مع بعضها وتشكل قوة اقتصادية وازنة في المنطقة، اذ ان نقاط ضعف الاقتصاد اللبناني هي نقاط قوة الاقتصاد السوري والعراقي وبعض نقاط ضعف اقتصاد سوريا والعراق هي نقاط قوة الاقتصاد اللبناني، على سبيل المثال قوة العراق النفطية ممكن ان تساعد في حل العديد من مشاكل الاقتصاد اللبناني مقابل حزمة من التقديمات التي ما زال لبنان بامكانه تقديمها للعراق خاصة بعد جملة التغيرات والاهتمام الشرقي والروسي الكبير في لبنان اليوم الذي لم نشهده سابقا والذي بات واقعًا وذلك بعد الاهتمام الصيني الذي بدأ يتبلور منذ ما يقارب ال٣ سنوات وكذلك الامر مع الاقتصاد السوري، الذي وبالرغم من الحصار الشديد الذي يعاني منه البلد والحرب التي دامت اكثر من عشر سنوات ما زالت قطاعاته الانتاجية تعمل وقطاعه الزراعي قادر على التصدير وبالتالي هذا التكامل الاقتصادي في دول المحور المشرقي سيشكل حتما رافعة لاقتصاد الدول الثلاث. كما لا يمكن التغاضي عن الرابط الجغرافي والذي يجب ان يستفاد منه وترجمته عبر قطار جامع بين دول المشرق العربي والذي ممكن ان يشكل حجر الاساس في بدء هذا التكامل الاقتصادي بين هذه الدول ويقرب المسافات بينها ويساعد في تخفيض الكلف في شتى المشاريع المطروحة، علمًا ان الصين ابدت استعدادها المعلن لتنفيذ هكذا مشروع عدا عن الاتفاقات التي وقعتها مع الجهات المعنية لاتمامه واهتمام بعض الدول الاخرى بتنفيذه وبذلك نكون امام الخطوة الاولى والاكبر للوصول للطرح الاقتصادي الجامع بين دول المشرق .
من ناحية اخرى، التغيرات الكبيرة التي تحصل في المنطقة منها استثمارات الصين في ايران التي ستحمل معها تداعيات ايجابية كبيرة على منطقة المشرق العربي والتي ستلعب دورًا في اعادة هيكلة بعض الموازين التي كانت تعتبر من المسلمات سابقا، كما ان الدخول الصاخب لروسيا واهتمامها المعلن في لبنان خاصة في اعادة اعمار المرفأ وعدة مشاريع اخرى منها محطات الكهرباء ومصافي النفط وعدة مشاريع صناعية، بدأت تشير الى تغيير حقيقي في المنطقة ممكن ان يترجم بقوة اكبر اذا اتفقت دول المحور المشرقي بالتكامل اقتصاديا امام تحدياتها، والتي سيشكل مرفأ بيروت بوصلتها.
ولا يمكن التغاضي عن ان الكرملين يبني نفوذه في قطاع الطاقة العراقي ويدعم القوات المناهضة للولايات المتحدة في البلاد كجزء من أهدافه لموازنة الهيمنة الأمريكية في المنطقة. كان التدخل العسكري الروسي في سوريا في عام 2015 بمثابة نقطة تحول رئيسية ، سواء من حيث الحرب الأهلية السورية أو عودة روسيا إلى الشرق الأوسط كقوة إقليمية كبرى بعد غياب دام عقودًا. القوات الجوية الروسية ، بالتعاون مع القوات الإيرانية على الأرض ، قلبت مسار الحرب وأنقذت نظام الرئيس السوري بشار الأسد من الانهيار الوشيك. منذ ذلك الحين ، استفاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من هذا الانتصار لتجديد الشراكات القديمة وضرب شراكات جديدة ، حيث وضعت موسكو نفسها كمحاور قيم لجميع الأطراف في صراعات المنطقة بعد عقود من التفوق العسكري الأمريكي بلا منازع. أهم مصلحة استراتيجية روسية في الشرق الأوسط هي إمدادات النفط والغاز في المنطقة. كواحدة من أكبر ثلاثة منتجين للنفط والغاز في العالم ، تمتلك روسيا حصة حيوية في مستقبل سوق النفط والغاز العالمي. بالنسبة لموسكو ، يُنظر إلى مشاريع الطاقة على أنها مصالح تجارية يمكن الاستفادة منها في خدمة أهداف سياستها الخارجية. ليس من المفاجئ أن المصالح الروسية في العراق ، حيث تشكل صادرات النفط والغاز أكثر من 90 في المائة من الإيرادات ، قد دفعت روسيا إلى استثمار ما مجموعه 10 مليارات دولار في قطاع الطاقة في البلاد. في وقت سابق من هذا العام ، وعد المسؤولون الروس بضخ 20 مليار دولار في مشاريع استخراج الهيدروكربونات في المستقبل القريب من شأنها أن تشمل Zarubezhneft و Tatneft وكيانات النفط والغاز التابعة لشركة Rosneft. في عام 2016 ، جاء أحد أكبر الوفود الروسية إلى العراق لمناقشة التعاون الأمني الإضافي ، حيث تدفق المزيد من استثمارات الطاقة إلى جانب صفقات الأسلحة. في عام 2017 ، أقرضت Rosneft 3.5 مليار دولار لحكومة إقليم كردستان (KRG) ، مما أتاح لحكومة إقليم كردستان درجة من النفوذ على بغداد ، التي تريد السيطرة على مبيعات نفط حكومة إقليم كردستان. والدخول الروسي الحالي الجاد في انشاء مصافي نفط في لبنان وارسال وفود من شركات ضخمة لبناءها بسرعة قياسية هو امر يجب اخذه بعين الاعتبار عند ربط اقتصادات هذه الدول ببعضها.
كما لا يمكن التغافل عن المتغيرات السياسية عامة التي تحصل في المنطقة والعالم والتي ستؤدي حتمًا الى تغيرات اقتصادية في تكامل دول المشرق وانفتاح اكبر لهذه الدول على بعضها، وعلى سبيل المثال لا الحصر اذا اخذنا موضوع تصنيع اللقاح المضاد لكورونا والذي سيصنع في لبنان يمكن ان يجعل من لبنان مركزًا لتصنيع اللقاح لهذه الدول المجاورة وبالتالي يعود بالفائدة الاقتصادية الكبيرة على لبنان بسبب حجم السوق الكبير جدا وبالفائدة الصحية على سوريا والعراق.
اضافة الى ان الحرب الاخيرة على غزة التي افضت الى كسر تداعيات “صفقة القرن” التي كان يخطط لها الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب وبنتيجتها قامت مجموعة من الدول العربية بالتطبيع مع العدو الاسرائيلي، تبين حتى الان ان مخطط الرئيس الاميركي الحالي جو بايدن مختلفة بالشكل وبعد هذه الحرب التي شكلت هزيمة كبيرة للكيان الاسرائيلي يمكن ان تشكل قاعدة جديدة لمعادلة واضحة بما يخص مرفأ حيفا ودوره في المنطقة.
ناهيك عن الانتخابات الاخيرة التي حصلت في سوريا وايران وعززت تركيبة المحور بشكل عام، وجاء فوز السيد ابراهيم رئيسي مساعدا اساسيا خاصة في توقيته اي في ظلّ تراجع الحضور الأميركي في المنطقة، والحديث عن قرب التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران.
ختامًا، ان دور مرفأ بيروت في المنطقة هو دور استثنائي ان كان لناحية العمل مع اقتصادات دول المشرق العربي الذي يوازي ان لم يكن يفوق قدرة اقتصادات المحور الاخر، وان كان لناحية وجوده كمرفأ اساسي يمكنه ان يعمل بالتوازي مع المحور الاخر ان كانت التغيرات السياسية في المنطقة ستفرض ذلك خصوصًا بعد فشل وانتهاء ما يسمى ب”صفقة القرن” وبالتالي الدور الذي كان مرصودًا لمرفأ حيفا.