الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة … يضحك طويلاً من يضحك أخيراً


تتوالى فصول الحرب التجارية بين كل من الصين والولايات المتحدة. حربٌ أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الربيع الماضي عندما فرض رسوماً جمركية على واردات الصلب والألومينيوم من الصين وسائر أنحاء العالم، ثم خصّ الصين برسوم على سلع بقيمة 200 مليار دولار قبل أن يوسع قائمة السلع المشمولة بالرسوم. وردت الصين على كل خطوة بخطوة مماثلة إلى أن قررت بدء الهجوم المضاد.

 

الرصاصة الأولى

أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشرارة الأولى للحرب التجارية في 9 آذار مارس الماضي، حين فرض رسوماً جمركية على واردات الصّلب والألمينيوم من الصين بنسبة 25% و10% على التوالي، ثم وقّع في 15 حزيران يونيو قرار فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على 1300 سلعة صينية بقيمة 50 مليار دولار إضافة إلى فرض قيود جديدة على استثمار الصين في القطاع الأميركي للصناعات عالية التقنية. وردت الصين بفرض رسوم على سلع أميركية بقيمة 60 مليار دولار وهددت بمزيد من الرسوم والإجراءات المضادة.

وفي 23 آب أغسطس فرضت واشنطن مجموعة جديدة من الرسوم على واردات صينية بقيمة 16 مليار دولار تشمل نحو 279 منتجاً صينياً وردت عليها الصين بالإعلان فوراً عن إجراء مماثل. وبذلك تكون الرسوم الأميركية المفروضة على منتجات الصين قد ارتفعت إلى 50 مليار دولار والقيمة مرشحة للارتفاع مع تهديد ترامب بفرض رسوم أخرى على ما قيمته 400 مليار دولار من السلع الصينية.

ويبرر ترامب حربه التجارية هذه بضرورة الحدّ من استحواذ الصين على قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة وبأنه ينفذ الوعد الذي قطعه على ناخبيه بمعاقبة بكين التي يتهمها بسرقة الملكية الفكرية الاميركية، ويعبّر ترامب عن عدم رضاه على اختلال الميزان التجاري بين البلدين الذي يبلغ وفق السلطات الأميركية 500 مليار دولار لصالح الصين. وكان المستشار الاقتصادي في البيت الأبيض إفيريت إيشنستات Everett Eissenstat قد أوضح أن الرسوم الأميركية تطال “قطاعات صناعية سعت فيها الصين إلى الحصول على ميزة من خلال الاستحواذ غير المنصف أو نقل التكنولوجيا بالقوة من الشركات الأميركية”.

في الأسبوع الأول من شهر تشرين الأول أكتوبر حملت التصريحات الأميركية تصعيداً جديداً مع اتهام نائب الرئيس الأميركي مايك بنس السلطاتِ الصينية بالتدخل في السياسة المحلية الأميركية واستغلال أي تناقض بين السلطات الفيدرالية والمحلية وقال أمام هيئة الاستخبارات الأميركية إن “محاولات التدخل الروسية في الشؤون الأميركية تبدو ضئيلة مقارنة بما تقوم به الصين”.

رغم التصعيد الكلامي، اكتفت واشنطن حتى هذه الساعة بسلاح الرسوم الجمركية في حربها التجارية على الصين. وأوضح مؤسس ومدير مركز”سيتا” للدراسات د. علوان أمين الدين أهمية هذا الإجراء بكونه يمنع إغراق الأسواق بالسلع المستوردة ويعزز تنافسية السلعة المحلية لأن ارتفاع سعر السلعة المستوردة نتيجة زيادة الرسوم المفروضة يعطي أفضلية الاستهلاك للسلعة المحلية.

ويشير أمين الدين إلى أن أشكال الحرب التجارة تتعدى فرض الرسوم الجمركية إلى “منع الإستيراد” موضحاً أن “هذا ما قد تلجأ اليه الدول في حال عدم قدرتها على فرض الرسوم الجمركية على مروحة واسعة من السلع أو على بعض السلع التي لا تحتمل الرسوم”. واعتبر أمين الدين أن “العقوبات الأحادية هي شكل من أشكال الحرب الاقتصادية والتجارية وهي تحمل نوايا انتقامية مخفية، لكونها لا تستند إلى مبرر قانوني عالمي بل الى مبررات سياسية”.

 

إجراءات الصين

لم تتأخر الصين بالرد على كل إجراء أميركي بإجراء مماثل. لكنها لم تكتف بالرد بالمثل، وبادرت خلال شهر أيلول سبتمبر إلى تنفيذ ما يشبه “الهجوم المضاد” وتوقفت عن شراء النفط الأميركي رغم أنه ما زال بمنأى عن الرسوم الجمركية الجوابية. ونقلت وكالة “رويترز” عن متحدث باسم “CMES”، إحدى شركات النقل الرئيسة من الولايات المتحدة إلى الصين إن شحنات النفط الأميركي توقفت تماماً واستُعيض عنها بشحنات من روسيا والسعودية أما شحنات فول الصويا فانخفضت بنحو ملحوظ لحساب شحنات الفول من أميركا الجنوبية. علماً أن الصين بدأت استيراد النفط الأميركي في عام 2016 وبلغت آخر وارداتها منه، في آب أغسطس، 334 ألف برميل يوميا. وفي مرحلة لاحقة قد تمثل “مقاطعة” المنتجات الأميركية التي تغزو الأسواق الصينية خطوة أخرى تصعيدية للضغط على واشنطن.

ولعل هذا ما تنبّه إليه مسؤولون في وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” إذ خلص تقرير من 150 صفحة إلى ان الصين تستطيع وقف توريد مواد ضرورية للجيش الأميركي من بينها أنواع محددة من الإلكترونيات ومواد كيميائية مستخدمة في الذخائر الأميركية.

غير أن الخطوة الأكبر والأكثر خطورة تتمثل بخفض الصين استثماراتها في سندات الخزانة الأميركية أي خفض مساهمتها بتمويل الدين الأميركي الذي تجاوز 21 تريليون دولار.

وبالفعل خفضت الصين، أكبر حامل لسندات الخزانة الأميركية، حيازاتها من هذه السندات بواقع 4.4 مليار دولار إلى 1178.7 ملياراً في حزيران يونيو الماضي وفق ما كشف تقرير لوزارة الخزانة الأميركية رغم أن هذا ينطوي على مخاطرة تقوم بها بكين لأن زعزعة استقرار الأسواق قد تنعكس سلباً على قيمة سندات الخزينة والدولارات التي تملكها هي نفسها.

وكانت دول أخرى قد بادرت إلى تقليص استثماراتها في السندات الأميركية وأبرزها روسيا التي قلصت استثمارتها من 48.7 مليار دولار إلى 14.9 مليار، وتركيا من 32.6 مليار دولار إلى 28.8 مليار دولار، وكذلك اليابان التي تخلصت في حزيران يونيو من أوراق مالية أميركية بقيمة 18.4 مليار دولار، لتنخفض سنداتها إلى 1.03 تريليون دولار، وهو أدنى مستوى تسجله منذ أكتوبر 2011. وحدها السعودية خالفت النوجه السائد وزادت استثماراتها من 142 مليار دولار في حزيران يونيو 2017 إلى 164.9 مليار في حزيران يونيو 2018 أي بزيادة قدرها 22.9 مليار دولار خلال 12 شهراً.

أما في ما يتعلق باختلال الميزان التجاري بين العملاقين الاقتصاديين فقد اتفقت بكين وواشنطن على خفض العجز التجاري في أولى مراحل النزاع بينهما غير أن الجولة الجديدة من الرسوم الأميركية، دفعت بكين إلى إلغاء مفاعيل الاتفاق رداً على قرار ترامب الذي “فقد عقله” بحسب تعبير المتحدث باسم الخارجية الصينية. وتضمن الاتفاق المُلغى عرضاً مغرياً من بكين يقضي بزيادة وارداتها من السلع الأميركية بنحو 70 مليار دولار شرط تخلي واشنطن عن فرض الرسوم الجمركية. هذا العرض قُدِّم خلال الدورة الثالثة من المحادثات المنعقدة في بكين بين مسؤولين صينيين يرأسهم المستشار الاقتصادي للرئيس الصيني ليو هي، ووفد أميركي بقيادة وزير التجارة ويلبور روس. ونقلت وكالة “أ ف ب” عن مسؤول أميركي أن المنتجات المشمولة في العرض الصيني تضم كميات إضافية من الصويا والغاز الطبيعي والنفط الخام والفحم. تجدر الإشارة إلى أن قيمة صادرات المنتجات الأميركية إلى الصين بلغت 130.36 مليار دولار عام 2017، وفق أرقام وزارة التجارة الصينية، ولو زادت الصين هذه الواردات بمقدار 70 مليار دولار، لارتفعت القيمة الإجمالية بأكثر من 53.8%.

أما عن سائر الإجراءات الصينية الممكنة والمحتملة في المدى المنظور، فيُتوقع أن تفرض القيود على أنشطة الأعمال أو أن تطبق قواعد تنظيمية صارمة على الشركات الأميركية لتقليص تواجدها في الصين، أو ربما منعه نهائياً. وقد يصبح الحصول على تراخيص للعمل في قطاعات معينة أيضا أكثر صعوبة. وقد تصبح موافقة الصين على صفقات أميركية “تنازلاً” أو “منة”! وفي هذا السياق يُذكر أن بكين لم توافق بعد على استحواذ مقترح بقيمة 44 مليار دولار من كوالكوم الأميركية للرقائق على شركة “إن. إكس. بي” لأشباه الموصلات، في صفقة نالت سابقاً موافقة 8  من 9 جهات تنظيمية عالمية ذات صلة.

 

التحرك العالمي

لم تتردد الصين في دعوة الدول الأوروبية وسائر الدول المتضررة من الرسوم الجمركية إلى “تحرك مشترك” من دون أن توضح ماهيته وتوقيته. وفي هذا السياق لفت د. علون أمين الدين إلى أن التحرك الجماعي يتمثل بتفعيل دور التكتلات الإقتصادية العالمية مثل منظمة “بريكس” وتفعيل البنك المتفرع عنها ولا سيما أن “بريكس” قامت على  أسس مالية واقتصادية وليس أقليمية كما هو حال منظة شنغهاي للتعاون على سبيل المثال” وشدد أمين الدين على أهمية “إجراء المعاملات التجارية بالعملات الوطنية للهروب من سطوة الدولار مع التنبه والحذر من أن معظم دول العالم تملك احتياطات مالية كبيرة بالدولار واي فقدان لقيمته سينعكس سلباً على الوحدة القيمية للمخزون النقدي” ولعل هذا ما يستوجب، بحسب أمين الدين، إيجاد دورة مصرفية عالمية بعيدة عن “وول ستريت” ونظام “سويفت”.

وبالفعل بدأت الأصوات الأوروبية ترتفع لحشد الجهود من أجل إنشاء نظام مالي مستقل عن الولايات المتحدة. وقال هايكو ماس، وزير الخارجية في ألمانيا وهي أكبر اقتصاد في أوروبا، إنه “من الضروري أن يتم تعزيز الاستقلالية الأوروبية وإنشاء قنوات دفع مستقلة عن الولايات المتحدة، وإنشاء صندوق نقد أوروبي ونظام دفع مالي (سويفت) مستقل”.

بدورها منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) دقت ناقوس الخطر وقالت في أحدث تقاريرها إن الحروب التجارية والتعرفات الجمركية باتت تهدد التجارة البحرية والنقل. وقال الأمين العام للأونكتاد موهيسا كيتويي، في معرض تعليقه على التقرير “في الوقت الذي نرى فيه أفاقا إيجابية للتجارة البحرية، فان هناك تهديدا بإطلاق العنان للحروب التجارية وتعزيز السياسات المحلية. ومن المحتمل أن يؤدي تصاعد النزعة الحمائية والحروب التعريفية إلى تقويض النظام التجاري العالمي، الذي يعزز الطلب علي النقل البحري”.

Author: Hassan Khazaal

Share This Post On

Submit a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Top

Pin It on Pinterest

Share This

مشاركة

شارك هذا المقال مع صديق!